السيرة
بقلم صاحب
السيرة:
قال
أبو عبيد:
حدثني الشيخ
الرئيس أبو
علي قال:
كان
والدي رجلا من
أهل بلخ ،
وانتقل منها
إلى بخارى في
أيام الأمير
نوح بن منصور ،
واشتغل
بالتصرف.
وتولى العمل
في أثناء
أيامه بقرية
من ضياع بخارى
يقال لها
خَرْمَيْثَن
وهي من أمهات
القرى بتلك
الناحية ،
وبقربها قرية
يقال لها
أفْشَنَة ،
فتروج أبي
منها بوالدتي
، وقطن بها
وسكن ، وولدت
أنا فيها ، ثم
ولد أخي. ثم
انتقلنا إلى
بخارى وأحضر
لي معلم
القرآن ومعلم
الأدب ، وكملت
العشر من
العمر ، وقد
أتيت على
القرآن وعلى
كثير من الأدب
، حتى ] كان [
يقضى مني
العجب.
وكان
أبي ممن أجاب
داعي
المصريين ،
ويعد من
الإسماعيلية
؛ وقد سمع منهم
ذكر النفس
والعقل على
الوجه الذي
يقولونه
ويعرفونه هم ،
وكذلك أخي ،
وكانو ربما
تذاكروا ذلك
بينهم ، وأنا
أسمعهم وأدرك
ما يقولونه
ولا تقبله
نفسي ؛
وابتدأوا
يدعونني إليه
، ويجرون
على
ألسنتهم ذكر
الفلسفة
والهندسة
وحساب الهند.
ثم كان يوجهني
إلى رجل يبيع
البقل ،
قَيِّم بحساب
الهند ، فكنت
أتعلم منه.
ثم
وصل إلى بخارى
أبو عبد الله
الناتلي ،
وكان يدّعي
التفلسف ،
فأنزله أبي
دارنا ،
واشتغل
بتعليمي ،
وكنت قبل
قدومه أشتغل
بالفقه
والتردد فيه
إلى
إسماعيل
الزاهد ، وكنت
من أحزم
السائلين ،
وقد ألفت طرق
المطالبة
ووجوه
الاعتراض على
المجيب ، على
الوجه الذي
جرت عادة
القوم به.
ثم
ابتدأت
بقراءة كتاب
إيساغوجي على
الناتلي ؛
فلما ذكر حد
الجنس من أنه :
المقول على
كثيرين
مختلفين
بالنوع في
جواب ما هو ،
فأخذته في
تحقيق هذا بما
لم يسمع بمثله
، وتعجب منى كل
العجب . وكان
أي مسألة
قالها
تصورتها
خيراً منه ،
وحذر والدي من
شغلي بغير
العلم ، حتى
قرأت ظواهر
المنطق عليه ،
وأما دقائقه
فلم يكن عنده
منه خبر.
ثم
أخذت أقرأ
الكتب على
نفسي ، وأطالع
الشروح ، حتى
أحكمت علم
المنطق. فأما
كتاب أوقليدس
، فإني قرأت
عليه من أوله
خمسة أشكال أو
ستة ، ثم توليت
بنفسي حل بقية
الكتاب
بأجمعه.
ثم
انتقلت إلى
المجسطي ؛
ولما فرغت من
مقدماته ،
وانتهيت إلى
الأشكال
الهندسية ،
قال لي
الناتلي : تول
قراءتها ،
وحلها بنفسك ،
ثم اعرضها
عليّ ، لأبين
لك صوابه من
خطئه . وما كان
الرجل يقوم
بالكتاب ،
فحللته ، فكم
من شكل ما عرفه
إلا حين عرضته
عليه ، وفهمته
إياه.
ثم
فارقني
الناتلي
متوجهاً إلى
كُرْناج ؛
واشتغلت أنا
بتحصيل الكتب
من الفصوص
والشروح من
الطبيعيات
والإلهيات ،
وصارت أبواب
العلم تنفتح
عليّ.
ثم
رغبت في علم
الطب ، وقرأت
الكتب
المصنفة فيه.
وعلم الطب ليس
من العلوم
الصعبة ،
فلذلك برزت
فيه في أقل مدة
، حتىبدأ
الأطباء
يقرءون عليّ
علم الطب.
وتعهدت
المرضى
فانقتح عليّ
من أبواب
المعالجات
المصنفة من
التجربة ما
لايوصف. وأنا
مع ذلك مشغول
بالفقه
وأناظر فيه ،
وأنا يومئذ من
أبناء ست عشرة
سنة .
ثم
توفرتُ على
العلم
والقراءة سنة
ونصفاً ،
فأعدت قراءة
المنطق ،
وجميع أجزاء
الفلسفة. ولم
أنم في هذه
المدة ليلة
واحدة بطولها
، ولا اشتغلت
بالنهار
بغيره ، و
جمعتُ بين
يديّ ظهوراً
فكل حجة منت
أنظر فيما
أثبته من
مقدكات
قياسية ،
وتريبها ، وما
عساها تنتج ،
وأراعي شروط
مقدماتها حتى
تتحقق لي
المسألة .
والذي كنت
أتخير فيه من
المسائل ، ولم
أظفر بالحد
الأوسط في
القياس ،
أتردد بسبب
ذلك إلى
الجامع ،
وأصلي وأبتهل
إلى مبدع الكل
، حتى يتضح لي
المنغلق منه ،
ويسهل
المتعسر ؛
وارجع بالليل
إلى داري ،
وأحضر السراج
بين يدي ،
وأشتغل
بالقراءة
والكتابتة
فمهما غلبني
النوم ، أو
شعرت بضعف ،
عدلت إلى شرب
قدح من الشراب
لكيما تعود
إليَّ قوتي ،
ثم أرجع إلى
القراءة.
ومهما أخذني
أدنى نوم ، كنت
أرى تلك
المسائل
بأعيانها في
نومي واتضح لي
كثير من
المسائل في
النوم ولم أزل
كذلك حتى
استحكم معي
جميع العلوم ،
ووقفت عليها
بحسب الإمكان
الإنساني ؛
وكل ما عملته
في ذلك الوقت ،
فهو كما علمته
، لم أزدد إلى
اليوم فيه
شيئاً ، حتى
أحكمت العلم
المنطقي
والطبيعي
والرياضي.
وانتهيت
إلى العلم
الإلهي ،
وقرأت كتاب ما
بعد الطبيعة
فلم أفهم ما
فيه ، والتبس
عليّ غرض
واضعه ، حتى
أعتدت قراءته
أربعين مرة ،
وصار لي
محفوظاً ،
وأنا لا أفهمه
، ولا المقصود
به ، وأيست من
نفسي وقلت :
هذا كتاب لا
سبيل إلى فهمه
. فحضرت يوماً
وقت العصر في
الوراقين ،
فتقدم دلال
بيده كتاب
ينادي عليه ،
فعرضه عليَّ ،
فرددته ردَّ
متبرم معتقد
ألا فائدة في
هذا العلم .
فقال لي :
اشتره فصاحبه
محتاج إلى
ثمنه ، وهو
رخيص وأبيعكه
بثلاثة دراهم
؛ فاشتريته ،
فإذا هو كتاب
أبي نصر
الفارابي في
أغراض كتاب ما
بعد البيعة.
ورجعت إلى
داري ، واسرعت
قراءته ،
فانفتح عليَّ
في الوقت
أغراض ذلك
الكتاب ؛ لأنه
قد صار لي
محفوظاً على
ظهر القلب ؛
وفرحت بذلك ،
وتصدقت في
اليوم الثاني
بشيء كثير على
الفقراء ،
شكراً لله
تعالى.
واتفق
لسطان الوقت
ببخارى ، وهو
نوح بن منصور ،
مرضٌ تحيَّر
الأطباء فيه.
وقد كان اشتهر
إسمي بينهم
بالتوفر على
العلم
والقراءة ،
فأجروا ذكري
بين يديه ،
وسألوه
إحضاري ؛
فحضرت
وشاركتهم في
مدواته
وتوسمت
بخدمته .
وسألته يوماً
الاذن لي في
الدخول إلى
دار كتبهم ،
ومطالعتها ،
وقراءة ما
فيها ، فأذن لي.
ودخلت إلى دار
ذات بيوت
كثيرة في كل
بيت صناديقُ
كتبٍ منضدة
بعضها على بعض
، ففي بيت منها
كتب العربية
والشعر ، وفي
آخر الفقه ،
وكذلك في كل
بيتٍ علْم
مفرد. فطالعتُ
فهرست كتب
الأوائل ،
وطلبت ما
احتجت إليه.
ورأيت من
الكتب ما لم
يقع اسمه إلى
كثير من الناس
، ولم أكن
رأيته قبل ذلك
، ولا رأيته
أيضاً من بعد.
فقرإت تلك
الكتب وظفرت
بفوائدها ،
وعرفت مرتبة
كل رجل في علمه.
فلما بلغت
ثمانية عشرة
سنة من عمري ،
فرغت من هذه
العلوم كلها ؛
وكنت إذ ذاك
للعلم أحفظ ،
ولكنه اليوم
معي أنضج ،
ولإلا فالعلم
واحد لم يتجدد
لي شيء بعد.
وكان
في جواري رجل
يقال له أبو
الحسين
العروضي ،
فسألني أن
أصنف له
كتاباً
جامعاً في هذا
العلم ، فصنفت
له المجموع
، وسميته
باسمه ، وأتيت
فيه على سائر
العلوم سوى
العلم
الرياضي ، ولى
إذا ذاك إحدى
وعشرون سنة.
وكان في جواري
أيضاً رجل
يقال له أبو
بكر البرقي ،
خوارزمي
المولد ، فقيه
النفس ، متوجه
قس الفقه
والتفسير
والزهد ، مائل
إلى هذه
العلوم ،
فسألني شرح
الكتب ، فصنفت
له كتاب
الحاصل
والمحصول في
قريب من عشرين
مجلدة . وصنفت
له في الأخلاق
كتاباً سميته
كتاب البر
والإثم ؛
وهذان
الكتابان لا
يوجدان إلا
عنده ، فإنه لم
يعر أحداً
ينتسخ منه.
ثم
مات والدي ،
وتصرفت بي
الإحوال ؛
وتقلدت شيئاً
من أعمال
السلطان ،
ودعتني
الضرورة إلى
الإخلال
ببخارى
والانتقال
إلى كركانج ؛
وكان أبو
الحسين
السهلي المحب
لهذه العلوم
بها وزيراً ،
وقدمت على
الأمير بها ،
وهو علي بن
مأمون ؛ وكنت
إذا ذاك على زي
الفقهاء
بطيلسان وتحت
الحنك ،
فرتبوا لي
مشاهرة تقوم
بكافية مثلي.
ثم
دعت الضرورة
إلى الانتقال
إلى نسا ؛
ومنها إلى
بارود ؛ ومنها
إلى طوس ؛
ومنها إلى
جَاجَرْم رأس
حد خراسان ؛
ومنها إلى
جُرْجان. وكان
قصدي الأمير
قابوس ، فاتفق
في أثناء ذلك
إخذ قابوس
وحبسه في بعض
القلاع وموته
هناك. ثم مضيت
إلى
دِهِسْتان ؛
ومرضت بها
مرضاً صعباً ،
وعدت منها إلى
جرجان ، واتصل
أبو عبيد
الجوزجاني بي
، وانشدت في
حالي قصيدة
فيها البيت
القائل:
لما
عظمت فليس مصر
واسعي
لما غلا ثمني
عدمت المشتري
(انتهت)
من
كتاب ((فليسوف
عالم: دراسة
تحليلية
لحياة ابن
سينا وفكره
الفلسفي))
للدكتور جعفر
آل ياسين ، دار
الأندلس ،
بيروت ،
الطبعة
الأولى ، 1984م - 1404هـ
. ص 295-298.